النقيب السابق لمحامي الشمال، الوزير السابق رشيد درباس
لم أدق ناقوس أحد الماضي بسبب السفر إذ كنت بضيافة إخوةٍ لم تلدهم أمي، في نقاء سرائرهم، وكرمهم الطائي ما يجعلني آسفاً على أنني لم أعرفهم في الشباب الذي ليتني أخبره ما أحاطه أهل المشيب بزوجتي وبي من محبة ووفادة. أصدقائي هؤلاء خفق فؤاد وأنس مجلس وصفاء نفس، ورجاء نهوض، وسمير من عطالله، وهم أيضاً من أهل الناقوس الأوائل، ولذلك ألحّوا علي أن أخرج لأيام أربعة من دوامة جهنم، علّني أجد في واحتهم الباذخة ما يبرد قلبي، ويهدىء قلقي، ويشحن قلمي بجديد الأفكار.
أما عائلاتهم فهي بمنزلة الربيع من الزمان على ما قاله أبو الطيب، الذي أردف قائلاً :
يَقُولُ بشِعْبِ بَوّانٍ حِصَاني:
أعَنْ هَذا يُسَارُ إلى الطّعَانِ
أبُوكُمْ آدَمٌ سَنّ المَعَاصِي
وَعَلّمَكُمْ مُفَارَقَةَ الجِنَانِ...
وكان هذا لسان حالي عندما أزفت العودة، ليس من باب الرغبة من البقاء خارجاً والإثقال على أهل المضافة، بل بلسان حال اللبنانيين الذين يعتبون على أبيهم لإرغامهم على مفارقة الجنان والذهاب المتمادي في رحلة الصراعات العبثية والفراغ والتفريغ والتهديم والتدمير والإفقار والإظلام، والعودة إلى ركوب الدواب التي فحش علفها وقاربت أسعاره أسعار العلف البشري المضمحل.
لن أشرككم في رحلتي، لأنها على جمالها الأخاذ كانت مشوبة بتنغيص التواصل الهاتفي على مدار التغرب القصير، حيث تتوالى الأنباء السيئة ، وتتفاقم صعوبة المعيشة في بلد كان ملاذ مناخ وعلم وأمن وثقافة وصحافة وانفتاح وحرية، للأهل والأشقاء العرب، فبات مستجدياً نقطة من مازوت، وقبساً من ضوء، ومستعجلاً فصل الشتاء علّ البرق يبدّد الظلمة رغم هزيم الرعد المرافق.
لست أدري إن كان من حقي أن أجعل دقاتي حزينة أو متوترة، فذلك ينطوي على جحود لجميل الأصدقاء الكرماء، ولهذا فإنني أدوّن لكم ما راقبته من حماسة الناس كلهم لأداء أعمالهم بفرح وحيوية، وأنني لم أتكلم بالسياسة إلا مع العرب الذين التقيتهم، فأهل أوروبا يعبّرون عن مواقفهم السياسية في صناديق الاقتراع في المناسبات المحددة، ويتركون الإدارة لمن زكّته الصناديق.
أما نحن فنستبق ما تقوله الصناديق ونعبث بها، ونكسرها إذا لم ترق لنا نتائجها، لنحسب بعد ذلك أنفسنا زوراً من أهل الديمقراطية.
أصدقائي، هذه انطباعات سريعة عن رحلة سريعة أسردها عليكم بإيقاع غير سريع امتثالاً لنصيحة المضيف بأن أختصر بالكلمات تسهيلاً لإلقاء متأنٍّ..
إلى اللقاء.