الشاعر هنري زغيب
ذات يومٍ من أَيار 2004، كان جمْع من كبار تجار العملات في العالم محتشدًا لــمَزاد علنيّ في هولندا، تمر أَمامهم أَوراقٌ نقدية يجري المزاد عليها. وحين مرَّت على الشاشة ورقة نقدية لبنانية من فئة 100 ليرة، أَعلن تسعة بين اثنَي عشر مشاركًا من أُولئك الخبراء الكبار أَنها بالنسبة لهم أَجمل ورقة نقدية يرَونها. وفي الكتيِّب الذي صدر بعد ذاك المزاد، احتلت ورقة الـ100 لبنانية صفحة بارزة في صدارة الكتيِّب على أَنها من أَجمل الأَوراق النقدية في العالم.
تلك الورقة النقدية كانت تحمل على وجهها الأَول في مقدمة الرسم إِلى اليمين أَرزة لبنانية كبيرة وفي خلفية الرسم هيبةٌ من تلال لبنان تعتمر بعض الثلج، في الزاويتين العُلياوَين كتابة 100 ليرة لبنانية، وفي الوسط عبارة "بنك سوريا ولبنان". وعلى الوجه الآخَر زخارفُ جميلةٌ أَنيقةٌ متناسقةُ الخطوط والزوايا، وكتابة 100 ليرة لبنانية على الأَربع الزوايا، وفي الوسط توقيع "مدير شُعَب لبنان" وتوقيع "رئيس المصرف"، وتاريخ الصدور: "بيروت في 1 كانون الأَول سنة 1945".
نسجتُ هذه القصة اليوم، فيما الإِعلام اللبناني، مطبوعًا ومسموعًا ومرئيًّا، ينعَى الليرة اللبنانية وتتسابق وسائله إِلى الإِعلان يوميًّا عن لهيب الدولار الحارقِ مصيرَ المواطن اللبناني قلَقًا من الآتي ورعبًا من المجهول، وفيما المسؤُولون منشغلون ببوانتاجاتهم الانتخابية نيابةً ورئاسة وشللًا حكوميًّا فاقع الوقاحة.
هكذا إِذًا، باتت الليرة اللبنانية عالّةً على حاملها، ذابت كحفنة ملح في الكف البليلة، وباتت عديمةَ التباهي لدى كثيرين ينظرون -كُفرًا مُبالَغَ الانفعال- إِلى بطاقة الهوية اللبنانية وجواز السفر اللبناني.
العملة إِجمالًا سفيرةُ بلدها إِلى العالم حين تمتلك قوة شرائية في أَرضها أَو في سائر الدول. لذا تُصدرها البلدان مؤَرِّخةً حدثًا أَو مناسبة أَو منظرًا أَو شخصيةً وطنية أَو مشهدًا معبِّرًا من تاريخ الوطن. فالعملة، ورقيُّها المطبوع أَو معدنيُّها المسكوك، وثيقةٌ تاريخية عن ثقافة الشعب وحضارته، كثيرًا ما تكون للباحثين مصادرَ معلومات لاستقاء تاريخ سياسي أَو اجتماعي، وتَدخل العملة أَيضًا في علْم الآثار حين عليها رسومٌ أَو نقوشٌ قديمة من التراث الثقافي أَو السياسي أَو المعماري.
هكذا كانت عملتنا بهيَّةً في لبنان، منذ تحوَّل المصدر من "البنك العثماني" بعد حوادث 1860، إِلى "بنك سوريا ولبنان الكبير" سنة 1924، إِلى "بنك سوريا ولبنان" سنة 1927، إِلى توقيع لبنانَ اتفاقيةَ 1937 بانفصال الليرة اللبنانية عن نظيرتها السورية، إِلى يوم 2 شباط 1948 بتبديل العملة ووقف التداول نهائيًّا بالليرة السورية والتعامل فقط بالليرة اللبنانية. وفي عيد الجيش، نهار الأَول من آب 1963، أَصدر الرئيس فؤاد شهاب مرسومَ إِنشاء "مصرف لبنان" فباشر أَعماله رسميًّا في الأَول من نيسان 1964، وانتقل في 24 نيسان إِلى مبناه الحالي في أَول شارع الحمراء .
ومن يومها أَخذَت العملة اللبنانية تحمل اسم "مصرف لبنان"، وعلى فئاتها المختلفة مناظرُ من لبنان الطبيعة والمعالم والآثار، أَي هوية الوطن التي يعتز بها كلُّ لبناني عريقٍ يرى اليوم، بغَضَب وحقدٍ ولعنة، كيف سلطةُ لبنان الفاشلةُ هشَّمت صورةَ الدولة، فشَوَّهت بعملائها اليوضاسيين صورةَ لبنان الوطن.