طنين الأسى
طنين الأسى

خاص - Sunday, August 21, 2022 7:00:00 AM

النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس

حدثته الأحد الماضي وسألته متى السفر إلى باريس، أجاب ليس يجديني السفر... وكان هذا آخرَ الكلام، فلقد تطوّعت بعد ذلك العزيزة مها للرد على اتصالاتي وطمأنتي على صحته، ببالغ لطفها ورباطة جأشها، وحزنها المكتوم...


صباح الأربعاء أغمض الفريد عينيه راضياً عن نفسه ومسيرته، بعد أن ضرب مثلًا في الزهد بالمناصب، فما تبوَّأه كان من كدّه وصنعِ يمينه، وما تخلّى عنه من زعامة وطيدة وهادئة، كان بإرادته الحاسمة وقراره الجازم، منحِّيًا مكانته عن التوريث السياسي، الذي زهد به أيضًا وحيده نبيل، الشابُّ الفائقُ الثقافة؛ فكأنَّ الفقيد الفريد أراد مغادرة الدنيا في لحظة تُحْزِنْ الناس كلّهم بلا استثناء، لأنه لم يترك منه فيهم، سوى الصداقة والمحبة والعمل الطيب، ولأن ابن أنفة هو أيضاً بن الأُّنفة والإباء.


كان دولة الرئيس فريد مكاري أرثوذكسيًّا مؤمنًا برعاية أخيه الأكبر سيّدنا الياس، وكان لبنانيًّا صافي الوطنية كنفسه الصافية من التعصّب، فكأنه المضافة التي تأوي إليها المشارب المختلفة لتتفيأ في ظل ابتسامته وحميم كرمه.


كان من أعز أهل بيت رفيق الحريري ومن أكثر الناس اطّلاعًا على تفاصيل نجاحه وشجاعته وحبه لوطنه، بل كان أمين الأسرار الكبرى ورفيق الأحزان والمصاعب، ومحطّ الإخلاص والوفاء للشهيد العزيز، الذي أخذ عنه حكنة في السياسة وخبرة ببساتين صيدا وعبيرها وناسها كخبرته ببساتين طرابلس وأهلها، ومعرفته بجلول الزيتون وانتشارها على خريطة العائلات الكورانية الجزيلة الاحترام.


ويعرفُ أصدقاؤه كم من حزنٍ على الوطن ترسَّبَ في ابتسامته الوديعة، كما يترسَّبُ الملحُ في مَلَّاحاتِ بلدتِه. كأنما كُتِبَ عليه، منذ جيرته للأبيَض المتوسط، أن يفتحَ عينيه على ملوحةِ البحر التي لا تَفسُدُ ولا تُفْسِد، وأن يغمضَهما على ملوحة القدر التي لسعته بمذاقها كما لسعتنا بفراقه المبكّر.


سأظل أذكر أنه قَبِلَ دعوتي منذ مدة قصيرة إلى العشاء، فقالت مها العزيزة إنها المرة الأولى التي يخرج فيها... ولقد كانت الأخيرة أيضًا... فما أحزن الذكرى، وما أبقاها.


يؤسفني أيها الأعزاء، أن أدق ناقوس اليوم على طنين الأسى. فلقد ودّعْنا منذ أكثر من أسبوع زميلاً كبيراً هو النقيب السابق ريمون شديد الذي عاد إلى تراب حمانا محتميًا من أوجاع الجسد والروح، تاركًا للشاغور أن يبرّد مثواه بتدفقه المزمن. وفي وداعه أروي أنه أثناء انعقاد المؤتمر الاستثنائي لاتحاد المحامين العرب في القاهرة قبيل الاجتياح الأميركي للعراق، وقف نقيب محامي بيروت ريمون شديد، وصرخ بملء جوارحه "واعرباه"، فتذكرتُ موقف البطريرك غريغوريوس الرابع حداد يوم خرج في وداع الملك فيصل، بعد معركة ميسلون وخيانة سايكس بيكو، في مشهد لطالما تكرر فيه ظهور الصليب حين تمرّ العروبة في محنة أو منعطف خطر، فقلت للعزيز الراحل، إن استغاثتك الجريئة والجريحة تعيدنا إلى عمر أبو ريشة حين قال:


رب وامعتصماه انطلقت
ملء أفواه الصبايا اليتّم
لامست أسماعهم لكنها
لم تلامس نخوة المعتصم


أيها القرّاء الأعزاء.. في هذه المرحلة التي يحتاج فيها وطننا إلى عظمة النخوة، تتساقط الأيام حاملة معها نخبة أهل النخوة... فمنهم من دهمه المرض، ومنهم من أوهنته السنون، ومنهم من غدرهم الغادرون، لكنهم جميعًا حملوا في قلوبهم أوجاع لبنان وذهبوا بها إلى تراب خصيب قد يُنبت للأبناء والحفدة شجرًا نافضًا عنه الثمر المر والتفاح المسموم.


إلى أرواح فريد وريمون والنقيب بسام داية سلام من محبين يؤلمهم الفراق ويتقلّبون على جمر البقاء.

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني