المصدر: المركزية
خلقت الأزمة الاقتصادية وما أرفقها من تدهور في قيمة العملة الوطنية عدم يقين لدى سائر القطاعات، لا سيّما منها الحيويّة. فبدأت دولرة اقتصاد لبنان وتحوّل دفع السلع والخدمات نحو الـ "كاش"، كوسيلة للحفاظ على قيمة المدخول وسط اعتماد أكثر من سعر صرف للدولار والتقلبات السريعة في السوق السوداء. ولحق قطاع التأمين هذه الخطى، فبدأ تسعير البوالص بالـ"فريش" دولار، ما أّدى إلى تعذّر العديد من المؤمَنين القدامى عن تأمين هذه المبالغ. فما وضع القطاع راهناً؟ وكيف تأثّر لجهة عدد الزبائن ودرجات البوالص التي يتم شراؤها؟
رئيس مجلس إدارة شركة "أروب Arope" للتأمين وعضو مجلس إدارة تجمّع رجال وسيّدات الأعمال اللبنانيينRDCL فاتح بكداش يوضح لـ "المركزية" أنه "مع تعدّد أسعار الصّرف والفوضى في التسعير في مختلف القطاعات، لم يكن أمام شركات التأمين سوى التحوّل إلى صيغة الـ"فريش"، تماشياً مع نمط التسعير المعتمد من قبل مقدّمي الخدمات المحليّين. هذا التدبير كان ضرورياً للاستمرار في تسديد المستحقات لشركات إعادة التأمين العالمية، ولضمان تعويضات صحيحة وذات قيمة حقيقية للعملاء، وحماية مصالحهم والحفاظ على قيمة عقود التأمين القائمة".
ويتابع "مرّ القطاع مؤخراً بمرحلة انتقاليّة لجهة شروط الدفع والتسعير. لكن، نشهد اليوم محفظة تأمينية معظمها بالـ"فريش" دولار. لا شكّ في أنّ لذلك انعكاسات سلبيّة على المدى القصير، في ظلّ الأزمة الاقتصادية، وازدياد عدد المواطنين من ذوي الدخل المحدود، والقدرة الشرائية المتضائلة. لذلك، نرى تراجعاً في بعض الفروع مثل التأمين الشامل للسيارات والتأمين الصحّي من الدرجة الأولى. فنتيجة لسياسة التسعير هذه، انخفض عدد البوالص المجدّدة، حيث تراجعت بنسبة تراوحت ما بين 12 و15% لبوالص الاستشفاء، ومن 15 إلى 20% لبوالص التأمين الشامل للسيارات، بسبب تحوّل أصحاب البوالص نحو شراء تلك التي تغطّي ضد الغير فقط، والتي هي أقلّ كلفةً عليهم. أما بوالص التأمين الإلزامي، فشهدت زيادة في عددها".
وعلى صعيد القطاع بشكل عام، يشير إلى أن "بحسب تقرير هيئة الرقابة على شركات التأمين، تراجع عدد المؤمَنين بنسبة 9 في المئة خلال العام 2021. لكن، لهذه الخطوة آثاراً إيجابية عديدة على المؤمَنين بشكل رئيسي، فعقود التأمين الصحّي الصّادرة بالدولار، على سبيل المثال، تؤمّن للمريض الدخول إلى لائحة شاملة من المستشفيات والمراكز الطبيّة، كما أنّها تحدّ من الفروقات المالية التي تقع على كاهل المريض، خصوصاً مع انعدام النسبة الذي يغطّيها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي".
وعمّا إذا كان للقطاع قدرة على تأمين استمراريته في ظل الظروف الاقتصادية الحالية، يجيب بكداش "في بلد يفتقد اقتصاده إلى أدنى المقوّمات الأساسية للحياة، تكثر التحديّات أمام قطاع التأمين. لذا، حارب قطاعنا وحيداً لحماية مصلحة العملاء الذين منحوه ثقتهم وائتمنوه على حياتهم وممتلكاتهم. كما اصطدم القطاع بقرارات آنية عديدة خلال السنوات الثلاث الماضية، أجبرته على تحمّل أعباء إضافية لم تكن في الحسبان، مثل تغطيات جائحة كورونا، مرفقة بتدهور قيمة الليرة اللبنانية، وتعثّر المستشفيات، وتعدّد أسعار الصّرف، والقيود على التحويلات للخارج، وانفجار مرفأ بيروت، ما أثّر بشكل مباشر على الأقساط، وسقوف التغطيات والتعويضات.
لكن اليوم، وبيد أنّنا لا نزال في صلب الأزمة، أثبت قطاع التأمين أنه على قدر المسؤولية ومحطّ ثقة للكثير من اللبنانيين، لا سيّما بعد الأزمات المتتالية التي عصفت بالليرة والمصارف. استطاع قطاعنا الصّمود والتكيّف مع التغيّرات بأقل ضرر ممكن، وذلك لكونه يمتاز منذ نشأته بشفافية وموثوقية ومهنية عالية وكوادر إدارية ذات خبرة كبيرة في إدارة الأزمات منذ عشرات السنين. كما يجدر التنويه بالدور المهم الذي قامت به جمعيّة شركات الضمان وهيئة الرّقابة على شركات التأمين، لا سيّما في وضع الأطر المناسبة والضوابط السريعة لحماية حقوق المؤمّنين والشركات. نتطلّع إلى المستقبل بتفاؤل، علماً أن إصلاحات عديدة مطلوبة لضمان استمرار العدد الأكبر من الشركات. وتجدر الإشارة إلى ضرورة تحديث الإطار القانوني لقطاع التأمين الذي بات أمراً ملحاً. لقطاعنا إمكانية أكبر على الابتكار والتطوّر والرقمنة، لكنّنا نواجه بعض العراقيل والفجوات القانونية التي لا بد من إيجاد الحلول المناسبة لها للانطلاق نحو مستقبل أكثر تطوّراً ومرونةً".
وفي ما خصّ الحديث عن إعادة هيكلة قطاع التأمين وتقليص عدد الشركات كحل للمشاكل التي يواجهها، يؤكّد بكداش أن "مدى انعكاس الأزمة يتفاوت بين شركة وأخرى. لكن، لا شك في أن الاستمرار في ظل ظروف أكثر من صعبة مع تحديات عديدة، وعلى رأسها وجوب اعتماد المعيار المحاسبي الجديد IFRS17، يضع بعض الشركات، لا سيما الصغيرة منها، في "دائرة الخطر". فشروط الاستمرار في إدارة أموال الناس وتأمين الخدمة الأمثل والحفاظ على ملاءة مالية عالية ومحفظة تأمينية متوازنة وشفافة وقدرة حقيقية على التعويض، ليست بمهمّة سهلة. ذلك قد يدفع بالقطاع نحو حل واقعي، وهو القيام بعمليات دمج واستحواذ. وهذه الإجراءات سليمة، اذ انها تساعد القطاع على الصمود والاستمرار بشكل أقوى وأكثر صلابة مالية، مّما يعزّز ثقة المؤمّنين وشركات إعادة التأمين الإقليمية والعالمية به".
وتعليقاً على رفض وزيرُ الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال أمين سلام ما اعتبره "تحدٍّ للدولة وتهديدِ لدورها الرقابي في ملف التأمين كي لا تعادَ تجربةُ المصارفِ في القطاع"، مستغرباً ما وصفها بـ "الحملة الممنهجة على الوزارة على خلفية اطلاقها ورشة عمل كبيرة في موضوع هيئة الرقابة على شركات الضمان"، يقول بكداش "تابعنا الموضوع عبر الإعلام. نأسف كثيراً لما يحصل من أخذ وردّ، نظراً لانعكاس ذلك على سمعة قطاع التأمين، وهو القطاع المالي الوحيد الذي لا يزال صامداً ومستمرّاً في الإيفاء بالتزاماته. لا نعرف تفاصيل ما تقوم به لجنة الرقابة، لأنّ مداولاتها سريّة. لكن، ما نحن على يقين به، هو أنّه يجب البتّ بالمشاكل القائمة مع بعض الشركات المخالفة. كما لا يجدر التعميم والتأثير سلباً على القطاع ككلّ".
وعن دور التجمّع في مساعدة القطاع على تخطّي أزماته الحالية، يكشف أنه "يواكب الأزمات المستجدة عبر تنظيم اجتماعات وطاولات مستديرة بشكل دوري لمجموعة من الأعضاء عبر لجان متخصّصة في مختلف القطاعات مثل النفط والغاز، الصّحة والحماية المجتمعية، تطوير الزراعة والغذاء، وغيرها من المواضيع كالتأمين ومشاكله، بغية اقتراح حلول مناسبة. تمّ تنظيم العديد من الاجتماعات في لجنة الصحّة لإلقاء الضوء على مختلف المسائل، لا سيّما المتعلّقة بالمستشفيات والأدوية. هذا بالإضافة إلى مشاورات حثيثة تفضي إلى إيجاد أفضل الحلول لتوفير التأمين الصحّي لمن هم بحاجة إليه وبأسعار معقولة تكون بمتناولهم. كما تمّ الاجتماع مع ممثلين عن صندوق النقد الدولي للتداول في مشاكل التأمين المتأتية من الأزمة الاقتصادية، لا سيّما لجهة حماية مصالح المؤمّنين وحقوقهم".