جوسلين خويري...راهبةُ المجتمَع
جوسلين خويري...راهبةُ المجتمَع

خاص - Thursday, August 6, 2020 5:41:00 PM

بسام براك


أذكر كان الزمنُ شتاءَ الألفين وثمانية..وكنتُ على مسافة يدٍ وكاميرا وسؤال من جوسلين خويري..
في شيب رأسها ثلجٌ يحاكي مطرَ الذاكرة اللبنانية ووابلَ رصاصِ المقاومين فوق رؤوس المحاولين التقدم نحو الأسواق وساحة الشهداء والصيفي والمدينة الملوَّنة ببطاقات طائفية تحت شمس واحدة..

بمحاذاة جوسلين خويري مشيت، ونحن نصوّر حواري معها في حلقتنا التلفيزيونية " خبرة عمر" من ساحة الشهداء الى المباني المشيّدة حديثا فوق كثافة ذكريات جماعية، بعضها قانٍ بلون الدم، وبعضها ترابيٌّ بلون الرحيل، والآخر يستنبت خضارا صعودا الى زرقة السماء، لأن جوسلين والنظامياتِ معها تحت إشرافها التدريبي يصدُدن نار المعتدين بجرأتهن ويُسكتن وقع الأقدام عن تعتيب أرض بيروت .
فجوسلين تمضي الى المعركة ومعها ليس قنبلة فحسب ترميها في وجه قائد المسلحين الغرباء لا الأهليين من أعلى المبنى، بل معها اوراقٌ ثبوتية تُدعى الشهادة المسيحيّة الحقة على غرار قديسين نالوا قداستَهم بفعل شهادتهم!
لم تُضيِّع جوسلين في حواري معها- بينما الكاميرا تلتقط مشوارنا الاسترجاعي- الاستدلالَ وسط الأبنية الجديدة الى سطوح قديمة في بالها رصدت منها المسلحين في ٦ ايار ٧٦ ، وواصلت حملَ بندقيتِها على امتداد عشرِ سنوات في خوضها مغامرةَ حماية لبنانها . ولم تنس التوقفَ في مواضعَ كانت متاريسَ تركت فيها بصماتِ يدها لتخطَّ بسلاح حزبي مسارا وطنيا ، ولم تفقد أيَّ رونق من ذاكرتها حين جلسنا في درب داخلية خلف ساحة النجمة مستحدثين أستوديو لشاشة إخباريّة المستقبل حيث افترشنا المكان بكرسيَّين للسؤال والجواب أمام مَشاهدَ تنز في بالها، من وريد حبِّها الوطنَ في حرب لم يتّفق اليسارُ واليمين على مصطلحها، ولا الجبهة والحركة حول هُوية العدو وتآكل لبنان أو عزلتِه،لكن المرأة الشاهرة البندقية بيد، والوردية بيد، أخبرتني أنها كانت مع كل رصاصة تَسقط في الجبهة ترفع صلاة، ومع كل دخان يغمر محاور الاشتباك تقرّب بخورا ، وصورةُ مريم لم تبارحها من حرب السنتين حتى منتصف الثمانينيات حين أغلقتِ البابَ على سيرتها المحاربة كي لا تلطّخَ مسيرتَها بسياسة تعدُّد زعماء الحرب وسياسييها، ولتفتحَ الباب على مراكزها الاجتماعية الدينية، أبرزُها في مركز يو حنا بولس الثاني - كسروان، حيث التقيتُها تحضيرا للحلقة فطالعتني صورُ ُ البابا حبيبِ لبنان والعذراء ، كأن السماءَ تلف أرض مكتبِها. أذكر كيف استقبلتني بابتسامة مريميّة وكشفت عن رغبتها بأن لا يمسَّ كلامَها طيفُ السياسة ولا بعضُ الأسماء النافرة لديها، وقد نفرت من أصحابها لتمضيَ الى عالمها الجديد وتجمعَ الكثير من الفتيات النظاميات بعدما بلغ عددُهن ألفا وخمسَ مئة في مشوارها حول مريم وإمرأة ٣١ ايار، و ليترهبَ عددٌ منهن، وتبقى هي راهبةَ المجتمع مرتديةً إسكيمَها من ورق الأرز وغصنِ الصليب .

مرّت السنون لتشكل إطلالاتُها المقتضبة في تغطيات بابوية دينية تولُيتُها عبر" أل بي سي" إضافة لي بحديثها عن بنديكتوس السادس عشر ويوحنا بولس الثاني وبولس السادس ، هي من شاركت في مجلس سينودوس كنائس الشرق الأوسط وعُيِّنت عضوا في المجلس الحَبري للعائلة.
بالأمس القريب غادرت هذه الفانيةَ أستاذةُ اللاهوت المتبحّرة في الكلمة والملفانة في العقيدة المريمية مجللة بإسكيم الراهبات الكرمليات الحبيسات، وهنّ ما خرجن من محبستهن إلا ليخطبن ودَّ وجهِ جوسلين الأخير، وعلّقن عليه سمة رهبنتِهن الكرملية، وهي مسافرة لتتكامل بالله وأمِّ الله فوق.
غادرت جوسلين المقاوِمة "الريسة" بعد تجلجلِها في مراحل المرض الخبيث، هي من هربت من خبث تسلل الى سلاح الحرب مثلما أسَرّت لي، وقد جلّلت صورُها صفحاتِ المو اقع وتردَّد اسمُها على وقع تغريدات المشتاقين إليها من بعيد وقريب ، مَن كانوا يلتقونها ومَن تناسَوا أن يلقوا السلام عليها ، مقاومين وسياسيين!
أما هي فجمعيّاتُها الثلاثُ تُكمل عقودَها الثلاثة أفقيًا بين الناس ترجمة لنضالها الروحي ، وها هي تذهب عموديا الى سماء ترى منها لبنان أكثر وتدلُّ بإصبعها الى سطوحٍ قاومت منها لأجل وجه الأرض سطحا سطحا، كما تمرّرُ أصابعَ روحِها على مسبحتها الوردية حبّةً حبّةً وتحفُّ صدى صوتِها الشجيّ على مسامعِ من تأثروا بقصة امرأة لا يزال لبنان نقيّا في قلبها ، وهي نقيّة في قلب من يحبونها صدقا لأجلها وسيرتها لا لأجلهم وسيرتهم ...لأجل اسمِها الواحد : جوسلين خويري .

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني