يوم حاول اللامسؤولون في دولتي قتلي!
يوم حاول اللامسؤولون في دولتي قتلي!

خاص - Saturday, August 8, 2020 2:07:00 PM

هذا النص طويل نسبيًّا ليكون مقالاً في موقع إلكتروني. فمن مبادئ النشر في المواقع الالكترونية ان يكون المنشور قصيرًا وسريعًا. أعلم مسبقًا أنني سأطيل.. لكن قصّة محاولة دولتي قتلي انا وأكثر من مليون شخص من اهالي وسكان بيروت ومحيطه، تستحق ان تُكتب.. لا لشيء، إنما فقط لأنني لم أمت بعد. فمن لا يجد في نفسه القدرة والصبر على قراءة نصّ طويل، فليتوقف الآن أو فليقرأ حتى النهاية.

شادي معلوف

أن تعيش في بلد تمنحك فيه لامسؤولية المسؤولين عنه فرصة أن تصوّر وتوثّق موتك او في احسن الحالات محاولة قتلك، لَهُوَ أمر نادر الحصول!
نعم، فأنا من اللبنانيين الذين منحتهم دولتهم-التي من واجبها حماية مواطنيها من "الحريق والغريق والشحشحطة عالطريق" - أن يروا بالعين المجردة ويوثّقوا لحظة ما كان يمكن ان تكون لحظة موتهم..

صباح اليوم السبت، بعد خمسة أيام من محاولة اللامسؤولين في دولتي قتلي وأهالي وسكان بيروت وجوارها، كنت وصديقي جورج غرة، رئيس تحرير vdlnews، ندردش واتسابيًّا ونستعيد تلك الدقائق القاتلة مساء الثلاثاء ٤ اب ٢٠٢٠. كان جورج آخر من تواصلت معهم قبل محاولة دولتي قتلي.

وصلت الى بيتي في شارع الخازنين في الاشرفية حوالى الخامسة والنصف من عصر الثلاثاء. ركنت سيارتي امام مدخل المبنى ذي البوابة السوداء الحديدية الكبيرة التي بعد دقائق سيحيلها التفجير كومة حديد منزوعة من مكانها ومرمية على الطريق. دخلت الشقة، بدّلت ملابسي، استلقيت على سريري أنتظر أن تصير "الساعة ٦" حتى "يتكّ" موظف شركة الكهرباء "الديجونتور" نحو الأعلى لننعم بكهرباء الدولة.
قبل السادسة بربع ساعة تقريبًا، سمعتُ دويًّا كثيفًا ومتواصلاً لمفرقعات وألعاب نارية. الى الان الامر عادي. فهذه الاصوات عادية في منطقتنا، نسمعها لأسباب عدة: عرس، دفن، أو سهرة في احد مرابع بيروت المكشوفة يوم كانت بيروت ما تزال مدينة "سهر وبسط وكيْف" قبل حوالي سنتين.
تناهى الى مسمعي صوتان لشخصين يتبادلان الحديث تحت شبّاك غرفتي. احدهما يقول للآخر: "في حريق عالپور" .
قمتُ من سريري وتوجّهت الى الشرفة الغربيّة المطلّة على المرفأ، والتي كنا في ما مضى نشاهد منها غياب الشمس وأهراءات القمح وعنابر التخزين وحركةالبواخر، قبل ان ترتفع في المنطقة ناطحات السحاب التي غيّرت معالم المنطقة وحجبت جزءًا من جمال بيروت، ولكن هذا ليس موضوعنا الان.
شاهدتُ دخانًا أسود خفيفًا يتصاعد من مكان ما على رصيف المرفأ. صوّرتُ فيديو قصيرًا للمشهد، والتقطتُ بعض الصور الثابتة وتواصلتُ مع الزميل جورج غرة عبر واتساب. كتبتُ له: "مرفأ بيروت في هذه الاثناء" . أجابني: "عم يقولوا بالبحر" . قلتُ له: "لا. هذا الدخان من داخل" السنسول" البحري على رصيف المرفأ، إما في أهراءات القمح أو في أحد المستودعات".
فخلف ناطحة السحاب الظاهرة في الصورة يجثم المبنى الابيض الكبير، أهراء القمح، وحوله عنابر ومستودعات التخزين.
أجابني جورج: "اوكي".
فتحتُ البث المباشر على صفحتي الفايسبوكية.كانت الساعة قد تجاوزت السادسة بدقائق قليلة.
في الأثناء وصلت والدتي من العمل، فيما ذهب والدي الذي أوصلها ليركن السيارة في الشارع.
وقفتْ أمي خلفي على الشرفة تسألني: "شو في؟". أجبتُها: "حريق عالپور" . أردفتْ: "إيه فوت لجوّا".
ودخلت هي الى المطبخ وغرفة الطعام، لتضع أكياسًا كانت تحملها، وبقيتُ أنا أصوّر.
في ثوانٍ تحوّل دخان الحريق الذي كانت ترافقه اصوات مفرقعات متواصلة ثم متقطّعة، الى دخان أبيض أخذ يتكثّف بسرعة.
عادت أمي وكررتْ: "فوت لجوّا". سذاجتي التي منعتني من الاعتقاد حتى تلك اللحظة أنّ اللامسؤولين في دولتي قرّروا تنفيذ محاولة قتلي مع مواطِنِيَّ والمقيمين في العاصمة، دفعتني للطلب من والدتي أن تدخل وتقفل نافذة "أوضة السُّفرة" المواجهة بدورها للمرفأ كي لا يدخل الدخان والغبار اليها.
لم يكن أبي قد عاد بعد.

الدخان يتكثف ويتصاعد. أصوات الانفجارات تزداد. وصوت هدير قوي مصدره "الغيمة" البيضاء الراكضة صوب الاشرفية بدأ يُسمع ويرتفع تدريجًا كلّما ازدادت كثافة الدخان الأبيض(هو الصوت الذي يقول عنه البعض صوت طيران سُمع يحلّق في الأجواء) .
تراجعتُ عن الشرفة خطوتين الى الوراء للولوج الى داخل المنزل. أنهيت البث المباشر على فايسبوك لشعوري انّ الدخان يتكثف وأصوات الانفجارات تزداد. صرتُ أقرب الى مدخل الشرفة، بعد انفجارين قويين نسبيًا شاهدت لهيبهما بين الارض والسماء.
آخر ما أذكره انني كنت ممسكًا بقبضة باب الشرفة لإقفاله..
بعدها مرت دقائق قليلة او كثيرة.. لا أعرف ولم أدرك ما حصل في خلالها.
كل ما أذكره الآن انني حين استعدتُ الشعور بالحياة، وجدتُني وقد رماني عصف التفجير في مكان آخر من الشقة مكوّمًا على الارض في ممشى المدخل الرئيسي للبيت. أجلس على حطام الابواب والنوافذ والزجاج وربما فوقي قطع منها.
لم أر تمامًا التفاصيل، لكنني شعرت بها. وكنت أسمع أصوات أشياء تتساقط وتتهدم او تتكسر داخل المنزل وخارجه.
عرفتُ بالاحساس أين أنا. وعرفتُ أنّ مقابلي مكتبتي المليئة بالكتب والاوراق والمقفلة بلوحيْن زجاجيَّين. مرّ ببالي أنّ لوحَيْ الزجاج سيسقطان وسيقطّعاني، وأنّ المكتبة ستهوي عليّ. صرتُ أحلّل كيف سأتمكّن من رفعها عنّي إن بقيتُ بعد سقوطها على قيد الحياة.
كل هذا الشريط كان يمرّ في رأسي في أقلّ من ثوانٍ بينما أحاول استعادة الإدراك الكامل وفهم ما جرى.
في الواقع حتى تلك اللحظة، لم أكن أعلم أنّ كل الزجاج تناثر كالطحين من شدة عصف الانفجار. ولحسن الحظ أنه لم يتكسّر قطعًا كبيرة وإلا لكان قطّع جسديْنا أمي وأنا.. أما المكتبة فبقيتْ متماسكة واقفة في مكانها لم يتحرّك فيها كتاب من مكانه، ربما لأن عصف الانفجار المقابل لها ثبّتها على الحائط خلفها المسنودة عليها اصلاً.
وسط الدمار الكليّ، وحدها أيقونة العذراء حاملة الطفل يسوع المطرزة بأيدي راهبات سيدة صيدنايا والمعلقة منذ ٤٠ سنة فوق الباب المؤدي الى الدار، بقيت في مكانها.
إستعدتُ وعيي الكامل. نظرتُ حولي.. الدمار في كل مكان. باب البيت مشلّع.. كذلك باب الشقة المقابلة. الجيران ينزلون من الطوابق العليا تغطّيهم دماؤهم.
تذكّرت أنّ أمّي كانت في الداخل. كانت اللحظة الاشد قساوة. إلى الان لم اشاهدها او أسمع صوتها! صرت أصرخ وأناديها.
مرّت ثوانٍ قليلة من صمت، كانت لي دهرًا، قبل أن تُجيبني: "أنا هون أنا هون.. جايي".
رفعتِ الزجاج وأنقاض الاثاث عنها لتصل إليّ، بعدما طمأنتني انها بخير. كان عصف التفجير قد دفع بها الى الخلف من غرفة الطعام نحو المطبخ.
في هذه الاثناء كان بين الجيران النازلين من الطوابق العليا، شاب يقيم مع زوجته في إحدى شقق المبنى. كل ما أعرفه عنه بالتواتر أنه فنان تشكيلي من الجنسية السورية. كنت صادفتُه مرات قليلة في مدخل المبنى، ونحن نعود او نخرج منه، وليس بيننا أكثر من "بونجور" أو "بونسوار". وقف أمام مدخل الشقة المشرّعة لأقل من ثانية، واندفع يرفع الحطام عن المدخل ليتمكّن من الوصول إليّ. ساعدني على النهوض وأمسك بي يعاونني على نزول الدرج، ثم ساعد والدتي، وعمّتي التي كانت بدورها في غرفة داخلية ولم تصب بأذى.
هذا الشاب الذي لا أعرف اسمه، علمت لاحقًا من بعض جيراننا أنه وزوجته بخير، وقد انتقل للإقامة في منزل أحد أقاربه. إلى الان لم أجد طريقة للتواصل معه. أدين له بكلمة شكر ومحبة، ولحظة لن أنساها مكتوبة على اسمه في عمري الجديد الذي أحياه منذ الثلاثاء الماضي.
أذكر أنني فيما كنت أنزل الدرج شاهدتُ هاتفي المحمول الذي كان بيدي لحظة اقفالي الشرفة وقد "طار" منها وحطّ مرميًّا محطّمًا قرب باب المصعد المخلوع. لم أستطع الانحناء لالتقاطه. بعد حين عادت والدتي وحملته إليّ.
في الشارع كان المشهد قاسياً. ألم ودماء ودمار، وصراخ من يحاولون إيجاد وسيلة للوصول الى المستشفيات، ومن لم يتمكّنوا من الخروج من منازلهم بعد لإصاباتهم البليغة. الطريق مقطوعة بالحجارة وركام الابنية وابواب ونوافذ المنازل وخزانات المياه المتطايرة عن السطوح..
وصل أبي إلينا بخير. كان قد ركن السيارة في آخر الشارع قبيل الانفجار، واحتمى من عصفه حين دوّى في أحد الابنية قيد الانشاء. لم تصبه الاخشاب المتساقطة والحجارة المتطايرة من الابنية.

لا سيارات اسعاف قادرة على الوصول، ولا سياراتنا المركونة في الشارع قادرة على السير في شوارع قطعها الزجاج والحجارة المتناثرة من الابنية وقطع الاثاث والنوافذ والابواب. الناس ونحن معهم نتوجه سيراً على الاقدام صوب أقرب المستشفيات في المحلّة، أي مستشفيَيْ الروم والجعيتاوي.
المشوار الى هناك كان كفيلاً في أن تتظهر أمامي هول مخلّفات الكابوس والدمار الذي نحن فيه. أشباح من بشر خرجوا من أطلال منازلهم تغطّيهم الدماء.
بدأت تصل الى المصابين الهائمين في الشوارع الأخبار، أنّ مستشفى الروم خرج تقريبًا عن الخدمة فلا تتوجهوا اليه.
كانت خطوط الهاتف قد أخذت تستعيد حرارتها ونحن في مسيرنا الى مستشفى الجعيتاوي. بعد محاولات كثيرة لاستذكار رقم هاتف الاذاعة او رقم الشيخ عماد الخازن، علمًا ان الرقمين سهلا الحفظ، وبعد محاولات فاشلة عدّة تمكنتُ من التواصل مع الشيخ عماد لطمأنته من هاتف والدتي.
وصلنا الى مستشفى الجعيتاوي الذي طاله الدمار أيضا. أعداد المصابين أكبر من قدرة المستشفى وطاقمه على الاستيعاب الفوري. كان بعض الجرحى قد افترشوا الساحة امام مدخل الطوارئ.
أمام هذا الحشد الذي يحتاج ساعات لتلقّي الاسعافات الأولية، قررنا التوجّه مستشفى سرحال في الرابية على اعتبار ان الضغط على مستشفيات خارج العاصمة قد يكون أقل. لاقانا صديق لوالدي أقلّنا بسيارته. في الطريق الى هناك تبدّت مشاهد مروّعة جديدة لآثار الانفجار التي بلغت مناطق الدورة والجديدة والزلقا..
زحمة السير باتجاه بيروت كانت خانقة. الضغط على المستشفيات خارج العاصمة لم يكن أقل من ذلك الذي على مستشفيات بيروت. بعد الاهتمام أولاً بذوي الاصابات الحرجة والبليغة، قدّموا لي ولوالدتي العلاج المناسب لإصاباتنا ثم توجّهنا ليلاً للإقامة في منزلنا الجبليّ.
كتبتُ اليوم كلّ هذه التفاصيل بتحريض إيجابي من العزيز جورج غرّة، وبرغبة مني في محاولة تقديم علاج نفسي لنفسي، بالتعبير كتابةً عن لحظات قاسية ترافقني منذ ذلك اليوم، أرغب في أن تغادرني نهائيًا في وقت قريب.
الاثنين صباحًا أعود الى هواء الاذاعة.. ضيفي في فترة البث المباشر الاعلامي زافين قيومجيان.
أرغب صادقًا في أن تكون الفترة الاذاعية تلك، مع الناس وللناس، بعيدة عن قصّتي الشخصية مع هذه المأساة اللبنانية الجديدة، لأنني في حال الكلام لا أضمن أنني سأتمكن من ضبط انفعالاتي ومشاعري.
أرغب ان يكون هذا النص آخر عهدي في الحديث عمّا حصل معي، وأن أطوي هذه الصفحة. سأحاول واتمنى النجاح.
شكرا للشيخ عماد الخازن وأسرتَيْ "صوت كل لبنان" و vdlnews على محبتهم وعاطفتهم.
شكرا لكل من حاول التواصل معي للاطمئنان بشتى الوسائل المتاحة، رغم تعذّر هذا التواصل على هاتفي الشخصي ووسائل التواصل لحوالى ٤٨ ساعة بعد الانفجار.
شكرًا لكل الأحباء والأصدقاء.
رحم الله ضحايا مأساة ٤ آب ومن سبقهم ومن سيلحقهم من ضحايا مآسي هذا الوطن الذي يديره مسؤولون لامسؤولين في دولة دأب القائمون عليها على التضحية بحقوق وكرامات وأرواح مواطنيهم من أجل صفقة وشنطة وعقد سمسرة وأجندات سياسية لا تشبهنا.
شفى الله مصابي تفجير مرفأ بيروت.
أما أنا فسأبقى حتى إشعار على ثقة أنّ لنا ربًّا يحمينا، وأنه لا بدّ سيستجيب لأدعية وصلوات وأوجاع المعذبين في هذا الوطن، ومن سيعيش منّا لا بدّ انه سيشهد يومًا على انتقامه العادل من كل من حاول في كل زمان ومكان تعذيب وقتل هذا الشعب بشتى الطرق والوسائل.
من يشأ أن يسامح فليسامح. أنا لن أسامح ومع مفعول رجعي.
الانتقام حقّ.. ويومها الشماتة ستكون حقًّا ايضًا، في كل من أساء إلينا وحرمنا الحق بالحياة الكريمة، وفي كلّ من استخف بحيواتنا ومصائرنا وترك الخطر نائمًا في المستودعات ست سنوات، بحجّة البيروقراطية والأصول القانونية والمسارات القضائية.
أنا على ثقة أنكم ستذهبون إلى الجحيم حيث ستجدون قسمًا خاصًا معدًّا لكم يوازي ما صنعتم بنا..
أنا أثق أنّ الله الذي أنقذني من لامسؤولين في دولتي حاولوا قتلي وكثيرين من أبناء وطني، لن يخيّبني وسيكون على قدر ثقتي به.

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني