"هذه مرافعة الوداع.. فلا ترى عيناي قوساً بعد اليوم!"
"هذه مرافعة الوداع.. فلا ترى عيناي قوساً بعد اليوم!"

خاص - Sunday, October 18, 2020 6:52:00 AM

النقيب السابق لمحامي الشمال، الوزير السابق رشيد درباس

في الخامس والعشرين من عمري تلبّست الثوب الأسود المثقوب الجيبين، وأحكمت أزرار ياقة مُنَشَّاة على عنقي، فكأنّ لحية بيضاء تدلّت من ذقني تكسب الفتوّة وقاراً ونزق الشباب فخاراً.
ملء ثوب داكن اختلتُ فيه كمن يختال في السماء السابعة، ظللتُ أدلي برأي جهوري الصدى وأدبّج اللوائح وأزيّنها بالبديع والبيان وما استقرّ عليه الاجتهاد إلى أن تلاشى رونق العمر في بلاط الخطوات الضائعة.
نبّهتني خمس وخمسون من الممارسة إلى أنها التقاء خمستيْن بل حلقتيْن أو قيدَيْن على صحوي ونومي، فنهاري كان قلق الاوراق، وليلي كوابيس من الأحكام القضائية المكنونة في علم الغيب.
كم عاندت الملفّات وعاندتني، ولكنّ القرش ظل أعند منها ومني، فلمّا قلّدوني عصا النقابة عُرض عاميْن، عصتني برهة، ثم استقامت في يدي، ثم عادت حيّة تسعى إلى ملمس حاوٍ آخر يداري تقلّبها وعطبها.
قبل انتسابي إليها، كانت المحاماة شغفي، فامتهنتني ولم أمتهنها؛ كانت المرافعة قبل إلقائها، مشروع فتاة لعوب، تشاركني وسادة الليل، ولا تمكّنني منها إلا في قاعة المحكمة، ووضح النهار.
ما الذي رماني على مركب خشن، يرمي الزبائن عليه همومهم، ثم يلوذون بأمان البر، فيما أصارع من أجلهم الموج بمجاذيف الأرق؟
مع هذا، لم أزل محامياً.. لم أتقاعد، ولن، رغم أنّ من عقدت الأيام بيني وبينهم أخوّة من السادة القضاة، تقلّدوا سدّة الذكريات الطيبة والقيم العالية، وخلّوا أقواسهم رافعي الرؤوس والسمعة، رحم الله الرؤساء نديم وميشال وجوزف وسعيد وموريس وزاهي وريمون ووليد ومراد، ومتّع الرؤساء شاوول وحنين وأرز وميشال وجهاد ومنيف وشبيب وطارق ووليد وسعيد وحسن ونبيل وصلاح بالشباب الدائم، لكي نبقى معًا نتساقى راح الزمان المعتّق، ونشمّ أريجه ونتأسف عليه.
هذه التنهيدة مقدّمة لأقول إنني أخذت قراراً بإقلاعي عن المثول أمام المحاكم والاكتفاء بالكتابة وتأمّل أحوال البحر من شرفة نافذتي، إيذاناً بأنني خلعت الأسود المثقوب، وحرّرت عنقي من الأبيض المنشَّى واستسلمت بكليّتي لتجاذب بين نزهة الأسماع، ومتعة التجوال بين الصفحات والموج الأزرق وحركة النوارس وبين المشاهد الحزينة التي أمسكت بخناق الدولة والناس.
لقد أبلغت هذا القرار للهيئة العليا لتأديب القضاة منذ أكثر من شهر، إذ وقفت مرافعاً عن قاضٍ، حوَّلته رئيستُه إلى التفتيش، بتهمة خطيرة جدًّاً، وهي أنه ينجز الملفات أكثر وأسرع من زملائه، وبدأت المرافعة بقولي، هذه مرافعة الوداع، فلا ترى عيناي قوساً بعد اليوم.

لم أكفّ عن الإيمان بالقضاء، وندبتُ نفسي للحثّ على إصلاحه وتطويره وتحديثه، متجاوزاً تلك المقولة السقيمة وهي أنّ موجب التحفظ والصلابة، والاستقامة، والصفات الملائكية الأخرى، لصيقة بالقاضي نفسه، فإما أن يكون قاضياً صالحاً بالولادة، وإما أن يكون ساقطاً فيقتضي بتره، على جاري الزعم والاجترار.

أيها السادة القضاة، أيها الزملاء المحامون، بل أيها المواطنون جميعاً، لا يوجد على الإطلاق قاضٍ معقّم، أو إنسان معقّم، بل لا بد من جوّ صحي معقّم يؤمنه القانون، لكي يحاسب المرء الذي ينتمي إليه على خروجه عنه، لأنه في هذه الحالة لا شفاعة له.
لم تعد لي مصالح في المحاكم، وقد كانت طوال عمري قليلة، لكنني مواطن أزعم أنني صالح، فلي إذًا مصلحة أكيدة ووطيدة بقضاء مستقيم.
تفشت الجزر القضائية، وصار بعض القضاة خطباء، وقادة رأي ومظاهرات، ومنهم من سوغ لنفسه صلاحيات نوعية ومكانية مخالفة للقانون، ونشر إرهابه على العباد توقيفًا اعتباطيًّا ومنع سفر وانتهاك حرمات وسوى ذلك من غير خشية تفتيش أو مساءلة رئيس.

تراخت قبضة الوقار، فتجرّأت الشاشات ومواقع التواصل على قضاة بأسمائهم وأخضعت سيرهم للتحقيقات التلفزيونية من قبل أدعياء وجهلة بلا حسيب أو من يحاسب.
لماذا تركتم السوس ينخر في البنية وأنتم بمهابتكم المورثة، تستطيعون ضرب الأمثال بما لكم من صلاحيات في تأديب من يخرج عن الأدب، رغم استقالة الدولة من وجودها؟

بالأمس خرجت أصوات ثورجية تتهم قاضي التحقيق الأول ورئيس الجنايات في الشمال اتهامات باطلة، فتصدت لها نقابة المحامين في طرابلس، بوقفة شجاعة من النقيب الأستاذ محمد المراد معلناً تضامنه وشجبه لذلك الافتراء. اليوم أجد نفسي منحازاً بكليتي وبالتضامن مع النقابة، لقضاة محترمين في الشمال يتعرضون مجدداً من قبل المواقع الخبيثة لحملة جديدة، وذلك بإبراز بعض الحقائق الدامغة عن موظفين معروفين بفسادهم، لا لتسليط الضوء عليهم، بل ليزجوا معهم بأسماء هي بحد ذاتها عناوين للاستقامة والنزاهة والشجاعة.

كان مدعي عام الشمال سابقاً القاضي المرحوم ريمون عويدات رمزاً للحضور الصارم والإدارة الحاذقة والدماثة الواعية. ولما خلفه الرئيس نبيل وهبة خلت أن مناخ بلدتهما شحيم توطّن في طرابلس، لأن الرجل يتمتع بميزة فريدة وهي أنه كالأوكسيجين في الهواء النقي، تتنفسه ولا تشعر به، يؤدي وظائفه بصمت وقور وحيي، أما الذين تشعر بوجودهم الخانق من القضاة وغيرهم، فهم الذين يطردون الكلوروفيل من الشجر، ويعبّؤون الرئات بالأزوت، وهم الأكثر حضوراً، والأكثر ضجيجاً والأكثر سموماً والأكثر أذى.
يعلم قضاة النيابة العامة والتحقيق ومحاكم الجزاء في الشمال أنّ وجودي عندهم أقرب إلى الاضمحلال، فلا شبهة تملّق عليّ في قول الحق فيهم، وهم على سوية عالية؛ كما لا رهبة عندي من أن أذكر المارق بما فيه.
كلما شاهدت نبيل وهبة، شعرت أنّ الأمان يتكىء على أريج بنفسجة متواضعة.
والسلام عليكم.

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني