على قرن ثور
على قرن ثور

خاص - Sunday, December 6, 2020 3:26:00 PM

النقيب السابق لمحامي الشمال- الوزير السابق رشيد درباس

 

قامت دولتنا منذ مئة عام بهيئة سوية سليمة وأعضاء متكاملة: نظرها من استشراف الجبال وحِدَّتِها، وسمعها من آذان الأودية، وشرايينها أنهار من الصفا والعسل، وأحشاؤها من خصب السهول وما كَنَّتِ الأرض من جذور واكتست من سنبل وثمر.
صغرت مساحتها فامتدت أياديها مجاذيف تعبر البحر إلى القارات، فكأنها الجسور التي تديم الوصل بين الأصل والفصل، ونحتت من الثلج كلامًا مذابًا على الشفاه، وَبَرْدًا على الأفئدة.
قراها حواضر تمدُّنٍ، وحواضرها قرى من الإلفة، تجذب الضيف فيقيم وتنادي الظاعن فيعود، فكأنها الظلال التي أوت الجامعات إليها، ونَعِمَ العلم تحت سنديانها، وتوزّعت صحفها على صحائف من ذهب الريادة ومعدن الابتكار، فهرعت إليها النخب العربية وغرفت من نبع لا ينضب، ثم تفرعت في الصحارى تزرع الواحات بوشيج الأواصر، وحديد البصائر.
سخَّر أطباؤها المناخ كأهم وسائل العلاج في مراكزهم المرموقة، واستدرجت فنونها الملأ إلى أدراج بعلبك، وقدمت لها النجوم أوراق عرفانها بجميل إرسال سفيرتنا إليها؛ كل هذا كان من الماضي القريب الذي تراه العين والذاكرة وتقصر عنه اليد، فتلكم اللوحة - الدولة لم تكن من نسج خيال الرحابنة أو من ريشة حبيب سرور، بل كانت ائتلافًا طبيعيًّا دعا إليه الألوانَ المختلفةَ في نسق من حياة لم تحسن الدفاع عن نفسها ولم تُحَصِّنَ رونقها من فظاظة الأحداث ورعونة ساسة أحداث.
لم يدر في خلد اللبنانيين أن يعجز الرئيسان عن توليف تشكيلة من ثمانية عشر، لأن المالية مصرة على ثوبها الشيعي، والداخلية على جلبابها السني، والكهرباء على توترها الكلامي العالي الخالي من النور، وأن كونفوشيوس العصر الحديث ما زال مصراً على تغيير الدستور بالممارسة في الوقت الضائع، حتى لو كانت عشوائية ومتخبطة، كَمَثَل طبيب الأسنان المزعوم الذي يخلع الضرس السليم بكماشة ملوثة، ومن غير تخدير فك المريض المنكود الحظ.
الآن، كل شيء يتصدع، بما في ذلك الأحلاف، وبتنا نسمع ونقرأ عن إعادة إنتاج حلٍّ جغرافي للمعضلة اللبنانية، بطريقة التنصّل الساذجة. ففكرة التقسيم التي فشلت سابقًا، أصبحت ضربًا من الهذيان بعدما تعقّدت الأمور وتشابكت، بحيث يتعذّر على أي مجتمع "كانتوني" مستجد أن يجاور مجتمعًا مسلّحاً حتى الأسنان، كثيف السكّان متشعّب العلاقات والأدوار؛ فمثل ذاك الكيان المتوهَّم سيعيش حالة ذميّة مقنّعة، فإن سعى إلى التسلّح كان سعيه فعلًا وراء تجديد الحرب الأهلية، في وطن تاريخه حافل بالنزاعات الوحشية داخل أبناء الطائفة الواحدة. فمن يطيق تجدد الاشتباكات بين الحواري والأبنية والطوابق والشقق؟
لا أظن أن الحلول التنصّلية ستعيد تكوين لبنان الفدرالي أو اللامركزي الموسع. أنا على يقين أن تحويل لبنان إلى قاعدة أساس من قواعد الاشتباك الإقليمي والدولي الدائر، مشروع ثبت فشله في الماضي، وسيفشل راهنًا بكلفة أكبر وبأصدقاء أقل، وما زلت أعول على أن الانهيار المريع الذي نعيشه قد يفضي إلى نور يخترق عتمة العقول، وأدبيات القوة، والتوكل على الغيب.
لفتني صديق عزيز إلى كتاب صادر عن دار النهار بعنوان "في فلسفة الدين" للدكتور أديب صعب، جاء فيه أنه ساد الأوساطَ العلميّة في الماضي اعتقادٌ بأنّ الأجرام السماوية محمولة على أجنحة ملائكة، إلى أن رفض نيوتن تلك الفكرة (1727م)، وقدّم نظرية الجاذبية، لكنه كان إذا عجز عن تفسير شذوذ في حركة الأجرام عبر قانون الجاذبية أعاد الأمر إلى إرادة الله. أما الفلكي الفرنسي المؤمن لا بلاس(1827)، فبيَّن أنّ تلك الحركات ليست شاذة حقًّا، بل هي ضرورية لحسن سير ذلك القانون، فلمّا سأله نابوليون عن سبب إبقاء الله خارج نظامه العلمي أجاب بأنه لا يحتاج إلى تلك الفرضية، لأنه يرفض إدخال الله إلى نظريته العلمية كإله ثغرات أو إله فجوات، حتى إذا سُدّت هذه الثغرات انتفت الحاجة إلى الله.
لقد أرهق الساسة الأكارم المعتقدات الدينية في محاولة سد فجواتهم وعوراتهم، فأنكرتهم الكهرباء، ونبذهم علم المال، واحتقرتهم العدالة، وازدرت بهم "الإنترنت"، وصبَّ الدّين لعنته عليهم، لكنهم ما برحوا يراهن كلٌّ منهم على قرن الثور أن يقذف الخريطة إليه؛ فهل تراهم يفقهون أن حكاية الأرض المحمولةِ على قرن ثور... "حديثُ خرافةٍ يا أمَّ عَمْرِو".

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني