حزنٌ سياسيّ
حزنٌ سياسيّ

خاص - Sunday, March 7, 2021 8:31:00 AM

النقيب السابق لمحامي الشمال، الوزير السابق رشيد درباس

عندما كان المذياع أهم وسائل الإعلام وأسرعها، كانت البرامج الصباحية مخصصة بمعظمها للتفاؤل والترفيه وبث المعلومة، وتقديم وجبات ثقافية لطيفة، مع كمٍّ من النوادر المضحكة، والمقابلات الخاطفة مع النجوم والمشاهير؛ وأنا أعرف كثيرين ممن فضلوا الثقافة السماعية على القراءة، وقد تمكنوا من خلال إدمانهم على متابعة موجات الأثير، أن يحوّلوا إبرة المؤشر إلى قلم يدون في آذانهم ويُخَزِّن في ذاكرتهم حصيلة معرفية وفنية هائلة.
لذلك أخجل من أصدقاء الناقوس، لأنني أستنزف الآحاد بذرف دمعة على صديق، أو التوغل في تبيان المأساة اللبنانية المتفاقمة، والوقوف في النهاية أمام الحائط المسدود، أنا المفطورَ وعيُه على ذلك الصندوق الصغير الذي كنت أظن أن الأصوات المنبعثة منه، ومن صندوق الفرجة أيضًا تعود لأشخاص حقيقيين يسكنون فيهما.
أصارحكم اليوم أن الأمور قد تخطت مناسبة الاحتفال باقتراب عودة الوحدة بين الليرتين السورية واللبنانية، ومهرجان الأفراح بأن منجل حصاد الأرواح الكوروني لا بد أن يصدأ مع الأيام بفعل قطرات من لقاحِ حسنِ يَرِدنا من قرضٍ حسن، كما يتجاوز رتابة المسرحية المملة التائهة بين الصلاحيات والدروب المثلثة الأضلاع، والتي لا تأبه للدواليب المشتعلة على الطرقات، ولا تعيرها شمًّا أو تنفسًا، بل ذهبت إلى اليأس القاتل وهو إحدى الراحتين. لم أشعر بحزن سياسي كهذا الذي انتابني من كلام الكاتب راجح خوري عندما أعلن في مقابلة تلفزيونية بما يشبه استسلام المهزوم لآخر الدواء وهو "أن تستقل كل طائفة.. بجغرافيتها."
أنا قارىء دائم للاستاذ راجح، وهو ذو عقل يستحق اسمه، لكنني وجدت في عظته الأخيرة أمراً لا يليق بإيمان خوري الرعية، ولذلك علّلت نفسي أنه بعد خروجه من حالة الإحباط، لا بد عائد إلى اسمه الكامل الرونق، مبنى ومعنى، أي راجح العقل، وخوريًّا في الرعية الوطنية.
لكن ما يمضني أن استسهال التنصل والانفصال عن الدولة الوطنية، صار أشبه بصلاة استسقاء في عز الهجير، وتحت سماء خالية من ديمة سكوب أو سحابة لعوب، بل هناك من راح يسترجع التاريخ ويسقطه على الوضع الراهن، بلا قياس ولا احترام لقواعد الاستشهاد، فالتاريخ لا يعيد نفسه إلا على شكل ملهاة أو مأساة كما يقول كارل ماركس، وقمة المأساة أن يكرر الإنسان غباءه؛ أسارع إلى القول بأنني لا أستخف بمن يجهر بذلك الحل الانفصالي، أو بمن ترواده نفسه عليه، فيكتمه خجلاً أو توجساً، ولكنني أجادله وأحاججه وأقول له، لقد فات أوان ما تنادي به الآن. ذلك أن لبنان الكبير الذي قام على انقاض المتصرفيتين لم يكن دمجاً قسرياً لمكونات متنافرة، بل كان إطاراً لرحابة التكامل في جغرافية التنوع.
لقد قال الاستاذ أياد البستاني، حفيد المؤرخ الموسوعي فؤاد افرام، على شاشةM.T.V، يوم الخميس الماضي، إن الخطيئة تكمن في أن الموارنة أقاموا الكيان الجديد على فكرتيْ العروبة والدولة المركزية؛ ولقد تبيّن من حديثه أنه اكتفى من خزائن جدّه المحترم ما يفيده في طرحه، وأهمل أن الجدّ هو الذي أطلق عليه اسمه تيمناً باسم إحدى القبائل العربية، بل عزز الاستشهاد بالتاريخ بخريطة ملوّنة بالأحمر والأصفر والكحلي والأخضر، ليدل كل لون على جغرافية الطوائف، فخانته الخريطة، وخذلته الألوان، إذ تعذّر عليه أن يدافع عن ذلك التباعد بين البقع اللونية الواحدة والتداخل بين المختلفة، فأغفل أنه لو نظر إليها بتناسق ألوانها، لاكتشف فصول السنة تتجاور ربيعاً وصيفاً خريفاً وشتاءً في حَيِّز واحد.
لست طوباوياً، ولكنني أذكّره أن الطوائف كلها جرّبت الهيمنة، واستعانت بالعامل الخارجي، وتمادت إلى أن اصطدمت بالجدار فعادت إلى رشدها. إنّ فكرة الدولة العربية الواحدة من المحيط إلى الخليج لم تعد تشكل هاجساً تخاف منه الأقليات الدينية والعرقية بل أصبح التمسك بالحدود القائمة غاية العروبة السامية، وإن الأزمة التي يعيشها لبنان ليست عائدة إلى تنافر أنماط العيش، بل إلى تنافر الخيارات الخارجية، كما أن الذهاب إلى الحلول السهلة النظرية هو أقرب الطرق إلى الانتحار.
البابا فرنسيس، يخاطب العالم من روما إلى الهند إلى أبي ظبي إلى بغداد، بلغة خادم البشرية دون تمييز، البطريرك الراعي قال للنهار، أنا لا أبحث عن حقوق الموارنة بل عن سلام الشعب اللبناني.
خلاصة القول، إنّ اللامركزية الادارية الموسّعة سمة الدولة العصرية، ولكنها ليست الفدرالية، التي تقوم على احترام التباينات المحلية من جهة، ووحدة الخيارات في الخارجية والدفاع و النمط الاقتصادي من جهة أخرى؛ إنّ ما يدور الآن على الأرض اللبنانية مردّه انعدام إرادة البحث عن حل يخرجنا من التجاذب الإقليمي الذي أدى الانخراط فيه إلى وقوع الدولة تحت حصار لا ترتقي مبرراته إلى فداحة ظلمه.
إن المريض الذي يعاني من النزيف الحاد والاحتقان الرئوي، وتناقص الأوكسيجين يحتاج لإسعاف سريع، فلا ينبغي إخضاعه في ظروفه هذه، إلى جراحة تجميلية خطرة تستهدف تغيير بصمة العين، ولغة اللسان وطبائع الأنف والأذن والحنجرة.

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني