باتريك إيليّا أبي خليل

بات التطبيع مع إسرائيل أمراً واقعاً برعاية أميركيّة بالنسبة للعديد من الدول العربيّة التي تربط سوريا مع بعضها علاقات جيّدة، ما يفقدها القدرة على إطلاق مواقف استنكار متشدّدة ضدّها، خصوصاً في ظلّ معاناتها من وضع إقتصاديّ متردٍ نتيجة تداعيات الحرب والحصار المفروض تحت راية قانون قيصر، الذي طَبَقَ عليها وأنجز عزلتها وقضى إلى شحّ المواد الأساسيّة وانهيار عملتها.

في المقابل، وإن كان للتطبيع ثمار الخروج من حالة الحصار الدبلوماسيّ والإقتصاديّ، مروراً بإعادة الإعمار ولعب أدوار إقليميّة، إلّا أنّه بالنسبة لسوريا يتعلّق بالحقوق أوّلاً، والتي سبقت وأعلنت عنها في مباحثات السلام غير المباشرة التي جرت في مراحل مختلفة منذ أوائل التسعينات، تارة برعاية الولايات المتّحدة، وطوراً بضمانة روسيا، وحيناً آخر باهتمام تركيا، والمتمثلّة باستعادة كامل أرضها المحتلّة في الجولان والتي ترفص إسرائيل التخلّي عنها بمعزل عن فكّ النظام السوريّ إرتباطه بإيران ووقف دعم المقاتلين الداعمين لها والمنظّمات الفلسطينيّة التي تعتبرها خطراً على كيانها، وذلك من أجل تقويض المحور الممانع لها وإضعاف حركاته التحرّريّة بهدف تنفيذ صفقة القرن.

وهي، إذ تسعى إلى بناء إئتلاف إقليميّ واسع مع الدول العربيّة لمواجهة التوسّع الإيرانيّ وقطع طرق إمداداته العسكريّة واللّوجيستيّة إلى سوريا وعبرها، تتخوّف في المقابل من رغبة الإدارة الأميركيّة الجديدة في إعادة التفاوض مع إيران حول البرنامج النوويّ على حسابها.

أمّا روسيا، ورغم تفوّقها الواضح في سوريا، إلاّ أنّ نفوذها يبقى محكوماً في التنسيق مع الولايات المتّحدة في العديد من القضايا الكبرى، وعلى رأسها حفظ أمن إسرائيل. وهي لا ترغب في أن تُستخدم الأراضي السوريّة ساحة لمواجهة إيرانيّة إسرائيليّة، لما لها من مصالح إقتصاديّة واستراتيجيّة مرهونة بالإستقرار العام، خصوصاً في مرفأ طرطوس وفي مجال التنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليميّة السوريّة في البحر المتوسّط. مع العلم أنّ الوجود الإيرانيّ وثقله في بنية النظام السوريّ العسكريّة والطائفيّة يشكّل تحدّياً كبيراً للسيطرة الروسيّة، لذلك فإنّ هذه الأخيرة تعمل على تهميش دور إيران، الأمر الذي تجلّى في عدد من الإتفاقات والمفاوضات المتعلّقة بالوضع السوريّ. وفي الضفّة المقابلة تقف طموحات تركيا التوسّعيّة في شمال سوريّا، المتخوّفة من انتهاء نفوذها في حالة التطبيع وضمّ سوريا إلى منتدى غاز شرق المتوسّط، المستثناة هي منه لخلافاتها المتشعّبة التي وصلت إلى حدّ التهديد العسكريّ مع دوله الأعضاء.

ويبقى دعم قوّات سوريا الديمقراطيّة في الشمال المناهضة لتركيّا من جهة أولى، والتساهل الروسيّ لإسرائيل بقصف مناطق تواجد الموالين لإيران في سوريا من جهة ثانية، حلقة من حلقات الصراع الخفيّ بين الصولات العالميّة والجولات الإقليميّة في حدود الجمهوريّة العربيّة السوريّة، التي لم تتخلّ يوماً عن شرط الأرض والحقّ مقابل السلام. فكيف لها اليوم، وبعد عشرة أعوام من الحرب الداخليّة، أن ترضخ لشروط بعيدة جداً عن السقف الذي وضعته، لاسيّما وأنّنا على أبواب المفاوضات الأميركيّة - الإيرانيّة برعاية أميركيّة - روسيّة.