أيها الصاعد إلى قمةِ الموت بل... إلى قمة الحياة
أيها الصاعد إلى قمةِ الموت بل... إلى قمة الحياة

ناقوس في أحد - تعليق على الاحداث مع رشيد درباس - Sunday, February 18, 2024 4:22:00 PM

النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس 
 
(في الذكرى ١٩ لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري)
 
ليس سرابًا من مُفْتَرِّ أفْق، ولا ومضةَ برق، ولا خرافةَ شرق، بل هو خيطٌ من حرير الشمس، وشعاعٌ يضيء الغد من عمق الأمس واليأس، ورؤيةٌ من زرقاء الغمامة، تمطر حُلمًا، وتزرع الآفاق واقعًا، وتستنبت من الإسمنت شجرًا، لتُطلِعَ من غصونِه خضرة الحياة.
من ركب جناح العصر لم يواره قبره فها هو الرخام تمسُّه زلزلة لا تحول، وكأني به يخرج إلى الوافدين، وينشغل عن تحيتهم باستدعاء طائرة عاجلة إلى مدرج الضريح، كي يجوب العالم نصرة لغزة، كما انتصر من قبل لقانا وشهدائها.
في حضرة القبر الخصيب فَشِلت الجريمة في إزهاق الروح، وانهزم التخلف أمام المستقبل الذي تخيله عريقًا، فجعل الخيال ملموسًا، وألحق التليد بالجديد، حتى تمثّل فعلُه واقعًا سويًّا وعاصمة حِضنًا، ودولةً على عتبةِ النهوض. جابه الركام بالإرادة، واستعاد الحجارة من مُتَرَدَّمِها، وأوقد في العقول شُعَلاً، واستنقذ عشرات الآلاف من دوامة الحرب ولوثتها، فأطلقهم في جامعات الدنيا، قائلاً لهم: اذهبوا إلى الحقول الواسعة ثم عودوا إلينا بما أعطاكم العلم من بذار وفسائل، وازرعوا غرسكم في كل أرض، وانشروا أنواركم في كل طول وعرض.
زلِقَت به الأمنياتُ فتخطَّت حد الخطر، وقد خال في البدء أنه ينشر شراعًا في ريح مؤاتية، فلما تحول النسيم سَمومًا، والديمةُ إعصارًا، حاول ترويض العناصر، وناور بقِلْعِه فسبقه ضيق الصدر والأفق، ونزعةُ الاستبداد العمياء، فكان لا بد من إخماد الدولة قبل أن تشتد عظامها، وينمو قوامها، وَاتُّخِذَ القرارُ الزاجر للحب في عيد الحب، فحقنوا خدود الورد بالأحمر الفاجع لمَّا رَمَوْهُ بسهم أنكروه، ناسبين إياه إلى الجنّ من آل (أبي عدس)، كما حدث بُعَيْدَ سقيفة بني ساعدة عندما غُدِرَ بسعدٍ بنِ عُبادَه ونُسِبَ الأمر إلى جنٍّ يقرضون الشعر، فقالوا:
 
قد قتلْنا سيِّدَ الخزرجِ سعدَ بنَ عُبادَهْ
ورميناه بسهمَينِ فأصمَيْنا فؤادَهْ
هكذا ....ذاب الحُرُّ الذهب، في حَرِّ اللهب،
تَبَّتْ يداه، أبي لهب.
 
لا ينبغي لنا الإفراط في محاولة الدخول إلى خبائث النفوس، فالفعل كشاف النيات، بل علينا أن نتوجه إلى العقول الشريرة، ونقول لها: "إن المكر حاق بأهله"، فما أن انقشع غبار الانفجار حتى انكشف المأزق على حقيقته المعقدة، مثَلُ ذلك كمثل من دلق في البئر علقمًا ثم راح يشكو بعد هذا مرارة الشراب؛ قتلوا من كان خيرة الأشقاء، فهم لا يحبّون الشقيق ولا الرفيق، ومن كان لهم حلَّالَ عُقَد، لأنهم عقَّادو الحلول، ومن كان حاضرًا في الملمّات دون انتظار دعوة أو استنجاد، ومن كان واضحًا لأنهم من أهل الإبهام والإظلام. ما كان يجوز له أن ينشىء فوق المتاريس مدينة مُشِعَّة، وأن يجمعَ الغربية والشرقية في صيغة من العمران والفرح، ولهذا تعمّدوا أن يدمّروا عُقْرَ العاصمة بما حوى، ليطمئنوا إلى أنه أصبح رذاذًا من رمادها وخرابها، فخذلهم بأن عاد رملاً من ترابها، وحقلاً من رحابها، وجارًا لجرسها ومحرابها. ولما انصب حقدهم على الصورة والإطار، والشخص والجوار، نجت ابتسامته المشرقة المتفائلة من آثار الانفجار، وأحرزت القِدْحَ المعلَّى فما يطار لها على قذيقة ولا يُسْعى على غدر.
أيها الشهيد، 
ما زالت الأمور على ما تركتها، دولةً رهن الاغتيال، نزفت مناعتها، وتضعضعت مفاصلها، وسلبت مدخرات مواطنيها من خائنة الخزائن وضاع منها رئيسها، وتشتت حكوماتها بين تصريف الأعمال وفراغ الأقوال، فالاستحقاق فعل جامد، والدستور اسم خامد والاقتصاد من أخوات كان، ناقص الرؤية والنزاهة والهيبة، والأمن الوطني سلعة دولية وإقليمية، ومستقبل الأولاد يضارعه اليأس وتأمره الخيبة.
في ذكراك، نستحضر الملايين التي صلّت لك بالفاتحة وإشارة الصليب، ونلتمس منك أن تشير إلى أن العودة إلى التهاتر الطائفي والمذهبي سلاح مسموم يؤذيك أكثر مما آذاك العدس الملغوم..
تحية لك وقد آمنت بلبنان وسرت في عمرانه وركابه صعودًا إلى قمةِ الموت بل... إلى قمة الحياة.

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني