يجمع اللبنانيين موسم صيام وطني، فالطوائف كلّها في حالة مجاهدة النفس وترويض غرائزها، وفي حالة تكيّف مع صيام طويل عن ممارسة الحياة العادية، لأن ثمّة قارع طبل يمتنع عن واجبه قبيل السحور، وثمة ضارب مدفع يطلقه في غير ميقاته، فيلتبس الأمر علينا، عما إذا كان هذا إيذاناً بالغروب، أو إعلاناً بشن الحروب...

تحية لأهل الصوم- أهل الجلد والصبر، وتحية لمن يتناولون إفطارهم فيبتلعون اللقمة بين القذيفة والقذيفة.

رمضان في طرابلس يوقظ عندي ذكريات ويحرّك العواطف، فإذا ما حلّ في بواكير الربيع كان له عطره الذي يحملك إلى حقبة كان فيها بائع الخرّوب صلة وصل بين العطاش، حين يضرب الصنج على الصنج، فيما تفوح الحلوى من أفرانها كأنها الجائزة الكبرى التي تنتظر من صبر على جوعه، وتلتمّ العائلة عند لحظة ترقّب، فما تكاد المئذنة تضيء حتى ينسكب الحساء في الحلوق الجافة، وتطغى قعقعة الصحون والملاعق على ما عداها، بعد أن يكون الجيران قد تساكبوا، فلكلّ جار حقّ في تذوّق طعام جاره.

تغيّرت الأمور كثيراً، ولم يعد للجيرة سحرها السابق، وضمرت حيوية الاسواق باشتعال الأسعار، وآلت المائدة الرمضانية إلى نحول، فيما بقي البخور يعبق بحكايات التاريخ.

مدينتي الغنيّة بأهلها وتراثها ومواردها، فقيرة بإدارتها، فالمعرض لا يعرض شيئاً، والمصفاة قيد التصفية، والمنطقة الاقتصادية الخاصة تلخّصت بمساحة جرى ردمها في البحر بانتظار من يفطن إلى أهميّتها.

ولكن الإنصاف يقتضيني أن أشير إلى مستجدات إيجابية، يتعين التنويه بها، ويتعيين على أهل طرابلس متابعتها، وأولى هذه الايجابيات انه أصبح بمسعى وكتابة النقيب سمير جسر، لمعرض طرابلس قانون جديد نافذ يحرّره من تفاهة الروتين، بانتظار تعيين مجلس إدارة جديد له، حيث علمت أن الأمر موضع عناية رئيس الحكومة، فلنأمل خيراً.

وثانيها انّ رئيس الحكومة كلّف المهندس الدكتور جمال كريم بتولي أمور المنطقة الاقتصادية الخاصة، على وعد بأن يعيّن لها مجلس ادارة جديد.

اما الأهم، فإن طرابلس، تستعد يوم الخامس والعشرين من أيار، للاحتفال تحت رعاية رئيس الحكومة بإعلانها عاصمة الثقافة العربية بمشاركة وزراء الثقافة العرب ورهط كبير من الفنانين والادباء والشعراء والمفكرين، كما تقتضي الإشارة إلى الجهد الذي بذله وزير الثقافة محمد مرتضى في هذا الشأن حيث خصّص أياماً في الاسبوع يداوم خلالها في المدينة ويجتمع بفعالياتها لإنجاح المناسبة على أكمل وجه.

 ومن جماليات المناسبة أنه سيجري تكريم لأعلام تركوا بصامتهم على الأجيال، وأن الفنانين منهمكون باستخراج جواهرهم ومن ذلك أن موسيقياً كبيراً ينكبّ على تلحين أبيات رائعة كتبها شوقي ساسين عرفاناً منه بفضل المدينة عليه ومنها قوله:

 

دغدغي لي الضِحْكَةَ الأولى يا فما للبحرِ معسولا

فيكِ يا فيحاءُ علَّقَني بيدَيْهِ العمرُ قنديلا

حجرًا من قلعةٍ، نهرًا يقرأُ الأيّامَ ترتيلا

جُظُرًا في موجِعها ذاكرةٍ عن نزالِ الأرضُ تأويلا

 

لكنيّ من هذا المنبر، اتمنى على كل من راعي المناسبة رئيس الحكومة ووزير الثقافة ووزير الداخلية ورئيس بلدية طرابلس الاعلان عن ميدان كبير يطلق عليه اسم "نلسون منديلا" صاحب الصبر الاستراتيجي، الذي انتصر على التمييز العنصري في سجنه، ثم انتصر للقضية الفلسطينة من قبره، عندما ذهب خلفاؤه إلى لاهاي أمام محكمة العدل الدولية ليستدعوا الدولة المجرمة لمحاكمتها بتهمة الابادة العنصرية، هكذا تكون طرابلس سبّاقة على عواصم العرب وأمينة لتاريخها الوطني العريق.

لقد بدأ العالم يصحو على هول المذابح، ومن هذا، مخرج بريطاني يهودي الديانة اسمه جوناثان غلايزر نال جائزة الاوسكار بالأمس عن فيلمه منطقة الاهتمام        

The Zone of Interest

حيث اعتلى المنصّة ليقول بالحرف :

"فيلمي ليس عما صنعه الألمان باليهود، بل عما نصنعه اليوم، لأنه يظهر كيف أن اللا إنسانية تقود إلى الأسوأ، التي شكّلت تاريخنا وحاضرنا". وأضاف:"نقف اليوم هنا بصفتنا رجالاً ندحض يهوديتنا والهولوكوست الذي سطا عليه الاحتلال".

كتب أحدهم متهماً اياه بأنه من أسوأ اليهود الكارهين ليهوديتهم. الذين تابعوا الحفل على A.B.C الأميركية، لاحظوا أن عدداً كبير من الفنانين والسينمائيين زيّنوا ستراتهم بأزرار حمراء تأييداً لغزة.